من حقك بالطبع أن تتساءل: كيف يجتمع النقيضين ؟؟
إزاي والدك رحمه الله تصيبه بلوى وتكون آثارها حلوة عليه؟؟
والواقعة التي أحدثك عنها وقعت في مثل هذه الأيام من سبعين سنة بالضبط .. يعني عام ١٩٥٤ حيث داهمته مصيبة واتهامات لم تخطر له على بال أبدا ، والحكاية كلها لم تستغرق سوى بضع ساعات ، لكنها كانت السبب في تغيير مجرى حياته المهنية إلى الأفضل ، وبدأ بعدها بزوغ نجم "إحسان عبدالقدوس" الأديب ، وكان قبل ذلك معروفاً بين الناس بأنه من نجوم الصحافة اللامعة و"لسة أديب ناشئ يحاول ويجتهد".
وعام ١٩٥٤ كان حاسماً في حياته بل وفي حياة مصر كلها حيث تم إعتقاله في شهر مارس من هذا العام بعدما كتب مقالة نارية في "روزاليوسف" أنتقد فيها مجلس قيادة الثورة وأتهمه بأنه مثل جمعية سرية تحكم مصر وقراراته تصدر في الخفاء و يفاجئ بها الناس .. وأودع السجن الحربي مع كل من تجرأ وانتقد نظام الحكم في مصر.
ومكث وراء الشمس ثلاثة أشهر وتم الإفراج عنه في يوليو من ذات العام.
وحرص "جمال عبدالناصر" رحمه الله الذي كان قد أحكم قبضته على السلطة على تطييب خاطره وكان يدعوه لمنزله من حين لآخر بغية إزالة الجفوة بينهما بعد ما جرى ، وهذا أمر إستثنائي جداً ..
هل سمعت حضرتك عن معتقل سياسي حرص حاكم مصر على التودد إليه بعد الإفراج عنه ، وكان "ناصر" يصطحبه كذلك في كل رحلاته الخارجية ضمن وفد الصحفيين المقربين منه .. ومع ذلك كان والدي يعامله بحذر ، بدليل أنه قبيل الإعتقال كان يناديه باسم "جيمي" وهو اسم الدلع لجمال لكنها سقطت بعد السجن وأصبح يتعامل معه بطريقة رسمية مثل يافندم .. وحضرتك !!
وتعجب "ناصر" من ذلك وسأله مرة فين "جيمي" ؟؟
وكان الرد: معلش يافندم دي كانت أيام زمان ..
يقصد قبل السجن.
ورغم هذه المعاملة الرسمية في التعامل فقد ظلت العلاقات بينهما قوية وفي تواصل مستمر حتى جاء يوم أسود في مثل هذه الأيام من سبعين عاما حينما فوجئ بالبوليس الحربي يقتحم بيته من جديد ويلقي القبض عليه مرة أخرى والتهمة هذه المرة أنه متهم بالتجسس وهناك شهود على ذلك !!
إتهام لم يخطر على باله أبدا ولا في الخيال ..
"إحسان عبدالقدوس" جاسوس ؟!!
ولا أحد يدري لحساب من يتجسس ؟؟
وتم سوقه إلى السجن الحربي من جديد واستقبله مأمور السجن "حمزة البسيوني" الذي أشتهر بوحشيته وقسوته بسيل من الشتائم وقلة الأدب ..
قائلاً: هتشوف يعني إيه السجن الحربي !!
كانت هناك توصية في المرة الماضية بحسن المعاملة .. لكن الوضع مختلف حالياً .
وفجأة رن جرس الهاتف في حجرة قائد السجن ووالدي موجود فيها ..
وارتبك المجرم "حمزة البسيوني" وهو يتحدث في التليفون ..
وكان يقول لمن يحدثه: أوامرك ..
تحت أمرك ..
حاضر يا فندم ..
وفجأة قال لحبيبي أبي: فيه تليفون علشان حضرتك.
ولعلك لاحظت كيف تغيرت اللهجة من النقيض إلى النقيض ..
من أقذع الشتائم إلى حضرتك !
وفوجئ والدي بأن محدثه هو "عبدالناصر" شخصياً الذي قال له: ما جرى لك خطأ فظيع وسيتم معاقبة المسئول عنه ..
وقد أصدرت أمرا بالإفراج عنك فوراً.
وأضاف : "عبدالحكيم عامر" بجانبي يريد الإعتذار لك باسم الجيش
(حيث أن البوليس الحربي هو الذي ألقى القبض عليه)
ولك أن تتصور موقف "حمزة البسيوني" بعد تلك المكالمة التي لم يتوقعها أبدا ..
كان في "نصف هدومه" بالتعبير العامي وأخذ يعتذر ويكرر إعتذاره ولكن والدي نظر إليه شذرا وبإحتقار .. وقام مدير السجن الحربي بإصطحاب أبي رحمه الله إلى باب السجن الحربي مكرراً إعتذاره من جديد.
وهذه الواقعة لا أظنها حدثت من قبل في تاريخ مصر ..
لكن الكاتب الكبير لم يكن سعيداً بها.
بعد إلقاء القبض عليه بطريق الغلط وقال: مصر كلها عرفت خبر إعتقالي بالخطأ لأنني صحفي معروف ملء السمع والبصر ..
فما بال الآلاف الذين يتم القبض عليهم دون إتهامات حقيقية ولم يسمع بهم أحد.
وأيقن والدي بعد تلك الواقعة أن عليه تغيير مسار حياته الصحفية ، بعدما أحكم الإستبداد قبضته على مصر.
وأعطى إهتمامه الأول للأدب وكتابة القصص مع أنه أستمر في الكتابة السياسية ، وبدأنا نرى من وقتها أعماله الأدبية الشامخة وكانت "أنا حرة" هي البداية ..
وتبعها "الطريق المسدود" و"في بيتنا رجل"
إلى جانب الحكايات الصغيرة التي برع كذلك في كتاباتها ..
وهكذا شهدت مصيبة السجن الحربي مولد نجم أديب عظيم رحمه الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق