ملخص السيرة الذاتية – محمد عبد القدوس

ملخص السيرة الذاتية – محمد عبد القدوس

محمد عبد القدوس إحسان عبد القدوس كاتب وصحفي وأحد رموز ثورة يناير عام 2011 عضو فاعل في نقابة الصحفيين – استمرت عضويته في مجلس نقابة الصحفيين ...

الأربعاء، 14 أكتوبر 2020

حكايات إحسان عبد القدوس : الضعف اللذيذ سلاح أعطاه قوة في سجنه




عندما دخل حبيبي السجن الحربي عام ١٩٥٤ لأسباب سياسية ابتكر داخل سجنه سلاح الضعف اللذيذ الذي أعطاه قوة داخل سجنه. 

وانصح كل من يذهب وراء الشمس أن يحذو حذوه!! 

وتعالى معي لتتعرف على سلاح الضعف اللذيذ كما أسماه.. 

ماذا فعل أبي عندما دخل الزنزانة رقم ١٩ بالسجن الحربي سنة ١٩٥٤ ، وكيف استطاع التغلب على هذه المحنة التي يصفها بأنها الأسوأ في حياته! لقد مكث في السجن الحربي ثلاثة أشهر، تحديداً ٩٥ يوماً.. منذ ٢٨ أبريل سنة ١٩٥٤ وحتى ٣١ يوليو من ذات العام بتهمة محاولة قلب نظام الحكم!! 

لقد لجأ كما يقول إلى سلاح الضعف اللذيذ في مواجهة عتاة السجن، وامده ذلك "بمنتهى القوة" هل سمعت من قبل عن هذه الوسيلة لمقاومة الظلم؟ 

 

(نسيت وجودي ككائن حي) 

وعن هذه التجربة المؤلمة يقول حبيبي الغالي: إنه عالم غريب فعلا.. عالم السجن، خاصة السجون السياسية، عشت هناك مع شخصيات غريبة الأطوار أيام عدة "الباشا شويش يس" و "الاومباشي رزق" والعسكري "لحمية"! هل سمعت في حياتك عن واحد أسمه "لحمية"؟؟ كل يوم من تلك الأيام السود لا أنساها مدى حياتي! الأسابيع الأولى كانت عصيبة عنيفة خاصة أنني في زنزانة انفرادية، كل دقيقة فيها تنخر في أعصابي، حتى أصبح جسدي كله اعصابا ملتهبة ممزقة تشتعل نارا! كنت اغالب نفسي واغالب العذاب النفسي حتى انتصرت على نفسي، وعلى عذابها وعلى التجربة كلها، شعرت بلذة الانتصار في النهاية على سجاني عندما استطعت تكييف حياتي في حدودي الضيقة الجديدة مع الباشجاويش "يس" والاومباشي "رزق" والعسكري "لحمية" ومرة أخرى أسألك: هل سمعت في حياتك عن واحد أسمه "لحمية"؟؟ 

ويضيف قائلا: كانت معركتي مع نفسي أن أنسى وجودي ككائن حي، نسيت صباي الذي مر بي، وشبابي الذي أعيش فيه.. حاولت نسيان زوجتي وأولادي وهم أغلى الناس، وكانت محاولة شديدة القسوة، لكنها كانت ضرورية لأن تفكيري فيهم يعني تعلقي بهم وهذا يضعفني في السجن، وهذا ليس الضعف الذي أريده.. إنما سبيلي إلى ذلك الابتعاد عن الدنيا كلها ولذلك سارعت إلى إخفاء ساعتي حتى لا أشعر بالزمن والوقت وبعد معركة مع نفسي شديدة القسوة والوحشية نجحت، وكان مقياس النجاح أنني ابتعدت عن الحياة كلها بكل أحلامها ومشاكلها وطموحاتها وعائلتي واصدقائي واعدائي.. أحسست ساعتها بالبراءة وأنني انتقلت إلى عالم آخر، وصاحب ذلك نوع من الضعف اللذيذ.. أصبحت أضعف من أن أفكر، وأضعف من أن أشعر، وأضعف من أن تهفو نفسي إلى شيء، بل أضعف من أن اتناول طعاماً "يادوب لقمة أو لقمتين" وأصبحت "هفتانا دائماً" لا أكاد أقوم من الفراش حتى أعود من جديد، وبهذه الوسيلة استسلمت لمصيري، ولم أكن أريد من سجاني شيئاً، ولا من  "الأصدقاء الألداء" كما اسميتهم الذين ادخلوني السجن.. أصبحت قويا بهذا الضعف اللذيذ! 


(المجاملة رأيتها مؤامرة) 

ويضيف قائلا: ولأول مرة في حياتي لم أكن أرحب بزيارة زوجتي والأولاد.. إنني أعيش في عالم آخر وأنا حي ولا أريد العودة إلى الدنيا في السجن! وظن المسئولون في الدولة أنهم يجاملونني عندما سمحوا لي بزيارات متكررة لعائلتي لم تكن لغيري من السجناء السياسيين، لكنني رأيت هذه المجاملة أشبه بمؤامرة! يا ناس أنا سعيد في آخرتي! ولا أريد العودة إلى الحياة قبل أن تدب في نفسي الحياة من جديد. 

ويضيف قائلا: لم أكن أعاني عذاب الوحدة، لقد وجدت لنفسي مجتمعا جديداً.. في السماء بين يدي كتاب الله، وبدأت أعيش مع الملائكة والأنبياء والصديقين والشهداء.

وهذا الضعف اللذيذ كما أسماه أبي الحبيب حفظه من الإنهيار طوال مدة الحبس الانفرادي، وكان ممنوعا عليه حتى فسحة قصيرة بل كانت زنزانته الرهيبة رقم ١٩ مغلقة عليه ليل نهار وبعد أكثر من شهر تغيرت الأمور قليلاً، يقول في ذلك: سمحوا لي بالفسحة، أصبحت أخرج من زنزانتي لألمح بقية المعتقلين من بعيد، وهم يسيرون في صمت وهدوء وجلال.. وكأنهم الملائكة يمشون فوق قطع السحاب وكنت أبتسم لهم على البعد في طيب وحنو. وكأنني أنا الآخر ملاك.. وكنت أبحث عن "رضوان حارس الجنة" فأصطدم بهؤلاء الحراس.. إنهم يصلحون لكي يكونوا زبانية الجحيم! 

 

محمد عبدالقدوس


وهذه صورة عائلتنا الصغيرة التي رفض أبي أن يستقبلها داخل سجنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق